رئاسة الجمهورية
١٩٧٠ - ١٩٨١
الأحداث
الطريق الى كامب ديفيد

الطريق إلي كامب ديفيد


بدء المسيرة نحو السلام :

استغرقت مسيرة السلام التي سلكتها مصر حتى حققت هدفها باسترداد الأرض المصرية كاملة تسعة أعوام من 1973 إلي 1982، ويمكن تقسيم هذه السنوات وفقا لمستوي ونوعية الأحداث التي تضمنتها إلي مرحلتين:

الأولي: وقد استغرقت عامي 1974، 1975 ، وتضمنت :
• عقد اتفاق النقاط الست في نوفمبر 1973
• اتفاقية فض الاشتباك الأولي في يناير 1974
• اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا في نوفمبر 1973
• اتفاقية فض الاشتباك الثانية في سبتمبر 1975

الثانية: واستغرقت أعوام 1976: 1982، وتضمنت :
• مبادرة السلام
• زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977 .
• التوصل إلي إطار كامب ديفيد في سبتمبر 1978.
• معاهدة السلام في مارس 1979 .
• الانسحاب النهائي في أبريل 1982 .

اتخذت مصر بعض الخطوات قبل كامب ديفيد، فما أن توقف القتال، حتى بدأت مصر ومن ورائها العرب إلي دفع قضية السلام من خلال الجهود السياسية والاقتصادية . فمع نهاية شهر أكتوبر 1973 كانت مصر قد حشدت طاقاتها السياسية للعمل في ثلاث محاور، فدخلت في مباحثات متنوعة من اجل تحقيق السلام وهي:

الأولي: في القاهرة: بدأت مباحثات مصرية – سوفيتية: كان موضوعها الأساسي الاتفاق علي ترتيبات عقد مؤتمر السلام الدولي الذي اقترحته مصر، وأقره مجلس الأمن في قراره رقم 338 .

الثانية: في واشنطن: بدأت مباحثات مصرية – أمريكية بين هنري كيسنجر، ومبعوث مصر إسماعيل فهمي وزير خارجيتها الجديد، وكان موضوعها الأساسي تحقيق اتفاق محدود لفض الاشتباك بين القوات المتحاربة، يتضمن ترتيبات تحقيق انسحاب القوات الإسرائيلية من منطقة السويس إلي شرق القناة .

الثالثة: في الكيلو متر 101 علي طريق القاهرة، بدأت مباحثات مصرية – إسرائيلية علي المستوي العسكري، كان هدفها الأساسي الاتفاق حول الإجراءات العملية اللازمة لتأكيد وقف إطلاق النار وإمداد السويس والجيش الثالث وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 338، وتبادل الأسري والجرحى .

في نهاية أكتوبر وصل إلي مصر فاسيلي كزنتسوف النائب الأول لوزير الخارجية السوفيتية للقيام بمشاورات حول انعقاد المؤتمر الدولي والموقف من عناصر التسوية، مع الاهتمام بعقد مؤتمر لتحقيق التسوية التي تفرضها الظروف الجديدة، ولكنه لم يهتم بموضوع عودة القوات الإسرائيلية إلي خطوط 22 أكتوبر .

ولم تترك الولايات المتحدة المبادرة تفلت من يدها، وحرصت علي تأكيد هيمنتها السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وفي واشنطن طرح إسماعيل فهمي عناصر التصور المصري في شكل خطة عامة للمفاوضات تتضمن انسحاب القوات الإسرائيلية إلي خطوط 22 أكتوبر 1973، وإطلاق سراح أسري الحرب، ثم انسحاب القوات الإسرائيلية إلي خطوط داخل سيناء شرق الممرات كمرحلة تالية علي أن تبقي القوات المصرية في مواقعها مع انتشار قوات الطوارئ الدولية بين القوات المصرية والإسرائيلية بعد انسحاب إسرائيل إلي خط فض الاشتباك، علي أن تقوم مصر برفع الحصار عن باب المندب في جنوب البحر الأحمر، والبدء في تطهير قناة السويس عقب إتمام فض الاشتباك .

ولم يتحدد شئ خلال الزيارة واقتصرت نتائجها علي التمهيد لزيارة كيسنجر للقاهرة لمعالجة المسائل التي طرحت في واشنطن .


فض الاشتباك الأول يناير 1974:

اجتمعت اللجنة العسكرية في الكيلو متر 101 يوم 18 يناير للتوقيع علي وثيقة فض الاشتباك ووضع الخطة التنفيذية . وقد رأس الفريق الجمسي رئيس أركان حرب القوات المسلحة الجانب المصري، كما رأس جنرال دافيد اليعازر رئيس الأركان الإسرائيلي، ورأس الجنرال سلاسفيو الاجتماع ممثلا للأمم المتحدة . وقد نصت الاتفاقية علي اتفاق لفض الاشتباك والفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية، مع التمسك بمراعاة وقف إطلاق النار، وإيقاف جميع الأعمال العسكرية وشبه العسكرية في البر والجو والبحر .

كما حدد الاتفاق الخط الذي ستنسحب إليه القوات الإسرائيلية علي مسافة 30 كيلو متر شرق القناة وخطوط منطقة الفصل بين القوات التي سترابط فيها القوات الطوارئ الدولية، وظلت القوات المصرية محتفظة بالخطوط التي وصلت إليها بل وتجاوزتها في بعض القطاعات، وقد اختتمت الاتفاقية بالنص علي أنها لا تعد اتفاق سلام نهائي، ولكنها تشكل خطوة أولي نحو سلام نهائي عادل ودائم طبقا لقرار مجلس الأمن في إطار مؤتمر جينيف للسلام الذي لم يكتب له أن ينعقد مرة أخري سوي بعد ثمانية عشر عاما حين عقد مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر1991 .

وقد ظلت هذه اللجنة مجتمعة ثلاث أيام برئاسة اللواء طه المجدوب عن الجانب المصري والجنرال أبراهام أدن عن الجانب الإسرائيلي، واستمر جنرال سيلاسفيو رئيسا لجانب الأمم المتحدة . أتمت اللجنة الخطة الكاملة للانسحاب والجداول الزمنية لمراحلها، وتنظيم دخول قوات الطوارئ الدولية واستلامها للأراضي وتسليمها للقوات المصرية بعد ذلك يوم 23 يناير ووقع الاتفاق يوم 24 يناير 1974، وقد التزم الجانب الإسرائيلي بالامتناع عن تخريب أو تدمير أي منشآت مدنية واقعة غرب القناة وتسليمها سليمة، مع ضمان توفير مستلزمات استمرار الحياة الطبيعية للسكان المدنيون أي محاولات لإرباكها أو تعطيلها .
ولاشك أن التزام إسرائيل بتنفيذ هذه الاتفاقية بحرص كامل، كان نابعا عن رغبتها الملحة في التخلص من الأوضاع الحرجة لقواتها غرب القناة، وللبدء فورا في تسريح قواتها الاحتياطية التي ظلت معبأة حوالي أربعة أشهر، الأمر الذي أضر ضررا بالغا بالاقتصاد الإسرائيلي، وشكل عبئا ماليا ضخما علي إسرائيل . من ناحية أخري، تعتبر هذه الاتفاقية انعكاسا طبيعيا نتيجة الرحب وما حققته القوات المسلحة من نصر .

فقد اضطرت إسرائيل إلي سحب كل قواتها الموجودة غرب القناة، والانسحاب شرقا بعيدا عن القناة لمسافة 30 كيلو متر، وهي مسافة كافية لتأمين القناة ومدتها بدرجة مناسبة تماما، وكان ذلك دافعا للقيادة السياسية المصرية، وحرصا منها علي تأكيد توجهها الثابت نحو السلام بالبدء فورا في تعمير مدن القناة وعودة المهجرين إليها حتى تعود الحياة الطبيعية إلي المنطقة مرة أخري .

تسعون يوما من وقف القتال:

تم توقيع اتفاقيتين بين مصر وإسرائيل في الفترة (25 أكتوبر 1973– 25 يناير 1974)، واعتبر اتفاق النقاط الست أول خطوة علي طريق السلام ولكنه لم يحقق أي نتائج عملية بشأن الأرض، إذ كان هدفه حل المشكلات العاجلة الناجمة عن وقف القتال، أما اتفاق فض الاشتباك الأول فقد حقق احتفاظ القوات المصرية بالخطوط التي وصلت إليها في سيناء أثناء الحرب، وقد انسحبت القوات الإسرائيلية من كل المناطق غرب القناة إلي خطوط جديدة في سيناء قرب المضايق الإستراتيجية، وبلغت المساحة المحررة من سيناء 2800 كيلو متر مربع . وكان هذا الانسحاب هو أول انسحاب تنفذه إسرائيل – من ارض احتلتها – تحت ضغط القوة العسكرية المصرية في حرب أكتوبر 1973 .

ورغم أن الاتفاق صبغته عسكرية إلا أن له انعكاسات سياسية هامة يصعب تجاهلها . فد مثل الاتفاق نقطة تحول هامة في علاقات القوتين بأزمة الشرق الأوسط، حيث انفردت الولايات المتحدة لأول مرة بإثبات قدرتها علي إيجاد حل سياسي لمشكلة تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، كما بدأت تتقارب العلاقات المصرية الأمريكية، في حين سارت العلاقات المصرية السوفيتية في الاتجاه المضاد .


اتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل مايو 1974:

بعد توقيع اتفاق فض الاشتباك الأول بين مصر وإسرائيل وانسحاب القوات الإسرائيلية إلي الشرق، اتخذت قوات الطوارئ الدولية أوضاعها في المنطقة الفاصلة أو العازلة بين القوات في الرابع من مارس 1974 . وقد بدأت القيادة السياسية المصرية فورا سعيها من اجل اتخاذ خطوة مماثلة علي الجبهة السورية . وكان قد سبق الاتفاق علي تنفيذه بين مصر والولايات المتحدة، في نفس الوقت الذي اتفق فيه علي الخطوة المصرية . وقد قام الرئيس السادات بإبلاغ الرئيس السوري حافظ الأسد بذلك أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي في الجزائر في نوفمبر 1973 .

ووعد كيسنجر بان يبدأ جهود فض الاشتباك بين إسرائيل وسوريا بمجرد إتمام تنفيذ اتفاق فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل، وفعلا قام كيسنجر بزيارة سوريا في مارس 1974 من اجل التوصل إلي اتفاق بين سوريا وإسرائيل بشأن فض الاشتباك بين قوات البلدين من منطقة المرتفعات السورية وهضبة الجولان، والتقي الوفدان في قصر الأمم المتحدة بجينيف في الحادي والثلاثين من مايو 1974 ووقعا علي الاتفاق ثم جرت اجتماعات اللجنة العسكرية في جينيف تحت مظلة لجنة العمل المصرية الإسرائيلية المنبثقة عن مؤتمر السلام الذي انعقد في جينيف في ديسمبر 1973، وكانت مصر ممثلة في اجتماعات اللجنة العسكرية التي رأسها جنرال سيلاسفيو، ومثل مصر اللواء طه المجدوب .

وقد تضمن الاتفاق وقفا لإطلاق النار فور التوقيع عليه ، وانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها أثناء حرب أكتوبر والواقعة شرق هضبة الجولان، مع إخلاء منطقة أخري تتجاوز خطوط يونيه 1979 علي امتداد الجبهة ، واعتبرت هذه المنطقة منطقة فصل بين القوات تحتلها قوات الطوارئ الدولية، وتخضع للإدارة المدنية السورية . وفي إطار هذه المنطقة عادت القنيطرة عاصمة الجولان إلي السيطرة السورية مرة أخري . وقد نص الاتفاق علي أنه ليس اتفاق سلام . وانه خطوة تجاه السلام العادل والدائم علي أساس قرار مجلس الأمن رقم 338 الصادر في 22 أكتوبر 1973 .

وبانجاز هذه الخطوات علي الجبهة السورية سارت الجهود المصرية لبناء السلام في اتجاهين هما:

o الإصرار علي تحقيق الهدف والتحرك المستمر في اتجاهه .
o الدعوة إلي عقد مؤتمر جينيف لوضع أسس السلام الشامل، ومن القرارات التي دعمت ذلك قرار تطهير قناة السويس وفتحها للملاحة الدولية في الخامس من يونيه 1975، والسماح بمرور البضائع الإسرائيلية علي سفن الدول الأخرى .

ففي الخامس من يونيه 1975 وبعد مرور تسع سنوات علي غلق قناة السويس افتتح الرئيس السادات الملاحة الدولية في قناة السويس بعد إتمام عمليات تطهير المجري الملاحي وإعادة تشغيل المنشآت الملاحية لهيئة القناة . وقد شارك في عملية التطهير وإزالة العوائق من مجري القناة كل من الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد السوفيتي فضلا عن الجهود المصرية المكثفة . ولقد افتتحت القناة في 5 يونيو وهو نفس اليوم الذي وقعت فيه نكسة يونيه 1967 .

اتفاقية فض الاشتباك الثانية:

كانت عملية فتح قناة السويس للملاحة الدولية في يونيه 1975 بمثابة بداية لمرحلة جديدة ومتطورة من مراحل عملية السلام، فبعد العديد من الاتصالات المبدئية بين مصر والولايات المتحدة وكذا الاتحاد السوفيتي، واستمرت جولات كيسنجر لفترة بدأت في 20 أغسطس وانتهت في أول سبتمبر 1975 بالتوصل إلي اتفاق حول فصل القوات الثاني بين مصر وإسرائيل، وقد تم توقيع الاتفاق بالأحرف الأولي في كل من إسرائيل ومصر، وقام بالتوقيع الجنرال مورد خاي رئيس الأركان الإسرائيلي والفريق محمد علي فهمي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية ثم وقع بالكامل في جينيف بعد ذلك بواسطة اللواء المجدوب ممثلا عن مصر والجنرال شامير ممثلا عن إسرائيل .

إذن تمثلت انجازات الفترة السابقة في:

o اتفاق النقاط الستة في نوفمبر 1973 .
o اتفاق فض الاشتباك الأول يناير 1974 .
o اتفاق فصل القوات بين إسرائيل وسوريا في مايو 1974 .
o اتفاق فصل القوات بين مصر وإسرائيل في سبتمبر 1975 .

وكان لما سبق بالغ الأثر علي القضية الفلسطينية حيث هيأت مناخا دوليا أفضل لصالح هذه القضية، بالإضافة إلي جهود منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1967 . واتخذت الدول العربية منهجا مشتركا عام 1974 بشأن طرح القضية الفلسطينية، حين أصبحت المنظمة – باعتراف الأمم المتحدة طرفا أساسيا في إقامة السلام العادل الذي يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة
وبمقتضي اتفاق فصل القوات بين مصر وإسرائيل تقدمت قوات مصر إلي خطوط جديدة واستردت حوالي 4500 كيلو متر مربع من أرض سيناء، بلغ أقصي عمق 35 كم في المناطق الهامة مثل الممرات الجبلية الإستراتيجية، حيث أصبح الخط الأمامي للقوات الإسرائيلية ببعد مسافة 55 كيلو متر عن قناة السويس، أما في الجنوب فقد امتد الانسحاب الإسرائيلي علي الساحل الشرقي لخليج السويس لمسافة 180 كيلو متر من السويس حتى بلاعيم علي ساحل الخليج، حيث تقع منابع البترول .

ولعل أهم ما تضمنته الاتفاقية، ما أقرته من أن النزاع في الشرق الأوسط لن يحسم بالقوة العسكرية، ولكن بالوسائل السلمية، علي أن يتوصل الطرفان لتسوية سلام نهائي وعادل عن طريق المفاوضات، ويعتبر هذا الاتفاق خطوة أساسية نحو هذا الهدف، كما ألزم الاتفاق الطرفين بعدم الالتجاء إلي التهديد أو استخدام القوة أو الحصار البحري ضد الأخر، مع مراعاة وقف إطلاق النار في البر والبحر والجو، وامتناع قيام كل منهما عن القيام بعمليات عسكرية أو شبه عسكرية ضد الطرف الآخر .

وحدد الاتفاق الخطوط الجديدة للانسحاب الإسرائيلي، والتي تحدد الحد الأمامي لقوات الجانبين والمناطق المحدودة الأسلحة والقوات، وكذا المنطقة العازلة، والمنطقة الخالية من القوات العسكرية وهي المنطقة الممتدة علي ساحل خليج السويس . واتفق كذلك علي إنشاء مركز مصري للإنذار الاستراتيجي المبكر في المنطقة العازلة شرق الممرات علي مسافة 50 كيلو متر من قناة السويس وهو مركز جديد لم يكن قائما من قبل، وذلك نظير أن تحتفظ إسرائيل بمركزها للإنذار المبكر والذي كان موجودا بنفس المنطقة .

كما نتج عن هذا الاتفاق عودة حقول البترول المصرية في رأس سدر وأبو رديس وبلاعيم، وتم استلامها من خلال طرف ثالث ممثلا في شركتي البترول"موبل" الأمريكية، و "ايني" الايطالية علي أن تترك إسرائيل كل المعدات الموجودة في المواقع وكل حقول البترول كاملة وسليمة، وبلغ عدد الحقول وقتها 135 حقلا منهم 6 في رأس سدر، 14 في أبو رديس، 115 في بلاعيم بعضها بري والآخر بحري، وكان إجمالي إنتاجها في ذلك الوقت 4.5 مليون طن بترول قيمتها 300 مليون جنيه .

وقد دعم الاتفاق الموقف الاستراتيجي العسكري للقوات المصرية، كما أنه أضعف الموقف الاستراتيجي العسكري الإسرائيلي بانسحابها من منطقة المضايق الإستراتيجية، وفي نفس الوقت مع ابتعاد الحد الأمامي للقوات الإسرائيلية عن قناة السويس تحسنت ظروف تامين الملاحة في قناة السويس .

وأخيرا أكد الاتفاق نجاح الإستراتيجية المصرية الشاملة والاتجاه نحو الهدف الأساسي وهو تحرير الأرض العربية واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني .

زيارة السادات للقدس نوفمبر 1977:

خاضت مصر تجربة اللجوء إلي الوسطاء في اتفاقيتي الاشتباك الأولي والثانية، وثبت أن اللجوء إلي الوسطاء لا يمثل أفضل طرق عرض ومناقشة القضية، ولذلك اقتنع السادات بأن خير من يعرض القضية هو صاحبها، فقرر أن يذهب إلي القدس ويعرضها بنفسه، ولذلك رأي أن يكون الخطاب علنا موجها إلي الشعب الإسرائيلي من خلال أعضائه في الكنيست، كما تقدم الرئيس السادات أيضا باقتراحات للسلام والخطوات الإيجابية التي تحققه . وجدير بالذكر أن الفرق كبير بين ذهاب السادات إلي القدس قبل 1973 وبعد انتصار أكتوبر والذي أكد بشدة وجود مصر علي ساحة الصراع المسلح .

في هذه المرحلة تغير دور الطرف الثالث وهو الولايات المتحدة من مجرد وسيط إلي طرف في عملية السلام يؤدي دورا مساعد لصالح الطرفين . وكان منطق مصر أن هدف الحرب التي يريد العرب شنها هو استرداد الأرض المحتلة وعودة الفلسطينيين وإقامة وطنهم . فإذا كنا نستطيع أن نحقق هذا الهدف في إطار الثمار التي طرحتها حرب أكتوبر يصبح الحديث عن حرب جديدة لا معني له .

كما أنه لم يعد من الممكن لدولة أن تخوض حربا دون أن تنتج جزءا أساسيا من سلاحها، أما الاعتماد علي شراء السلاح فهو أمر محفوف بالمحاذير . فقد علمتنا التجربة أنه في مثل هذه الظروف يصبح مصير الحرب ومسارها رهينة في يد من يعطي السلاح .

أما بالنسبة لإسرائيل، سنجد أن الزيارة أسقطت حجتها أمام العالم بأنها مطوقة بشعوب لا تفكر إلا في إبادتها . كما أن الارتياح العام الذي أبداه الرأي العام المصري للحل السلمي أكد أن الرئيس السادات كان يعبر فعلا عن ضمير الشعب المصري، فالمبادرة شكلت قوة ضاغطة علي إسرائيل، فأدت إلي دعم وتقوية التيارات الداعمة للسلام في إسرائيل وللتعايش السلمي مع العرب، كما شجعت الجناح المعتدل في الإدارة الأمريكية الذي يري ضرورة تقديم تنازلات للقادة الوطنيين من المعتدلين العرب .

أما عن الموقف العربي، فلم يكن من المنطق أن يتعارض التضامن العربي مع مسيرة مصر من اجل أرضها مع عدم التفريط في القضية الفلسطينية، ومع ذلك فإن مبادرة مصر لم تكن حلا لمشكلة مصر، ولكن كذلك تدعيما لحل المشكلة الفلسطينية ومشكلة الأرض السورية المحتلة في الجولان.


وفي ضوء ذلك، كان الاتجاه العام في الموقف العربي باستثناء جبهة الرفض تجنب العوامل التي من شأنها أن تسئ إلي شكل التضامن العربي، كما أنها أجمعت علي استنكار أو عدم تأييد ما سعت إليه دول الرفض، رغم المحاولات التي بذلها أطراف الجبهة من اجل كسب موافقة أكبر عدد من الدول العربية علي سلوك الجبهة وتصرفاتها المسيئة لمصر .

وقد كتبت مجلة النيوزويك في عدد خاص بمناسبة انتهاء عام 1977 عبرت فيه عن تقديرها لمبادرة الرئيس السادات واعتبرتها أهم حدث في عام 1977، والتي استحقت بالفعل"رحلة القرن العشرين" . ولقد تطورت تلك الرحلة بالفعل من مؤتمر القاهرة التحضيري إلي مؤتمر الإسماعيلية كختام لعام المبادرة 1977 ثم تتابع الجهود خلال النصف الأول من عام 1978 والذي شهد رحلات عديدة من اجل السلام قام بها الرئيس السادات وممثليه في أنحاء العالم والتي أدت إلي عقد قمة كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 1978 حيث تم الاتفاق علي إطار السلام وإطار الحكم الذاتي الفلسطيني، وتوجت هذه المرحلة ليختتم عقد السبعينات بتوقيع أول معاهدة للسلام بين إسرائيل وكبري الدول العربية في عام 1979 رغم كل المعوقات والمواقف التي اتسمت بالعداء لمصر من جبهة الرفض العربية، والاتحاد السوفيتي والتي أضرت بالقضية العربية ضررا بالغا وعطلت مسيرة السلام بعد توقيع معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية .

مؤتمر القاهرة التحضيري:

أعلن يوم السادس والعشرين من نوفمبر 1977 في مجلس الأمن عن عقد هذا المؤتمر في القاهرة، وأن الدعوة موجهة لكل الأطراف المعنية علي أن يكون المؤتمر تحت إشراف الأمم المتحدة وتحضره الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وإسرائيل، ومن الدول العربية مصر الأردن ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، علي أن يعقد المؤتمر في الرابع عشر من ديسمبر 1977 للإعداد لاستئناف مؤتمر جنيف للسلام، وتهيئة المناخ المناسب للتوصل إلي تسوية شاملة للنزاع العربي الإسرائيلي بعد أن تحقق الوضع الاستراتيجي والسياسي الملائم لخطوات جديدة علي الطريق نحو سلام عادل ودائم .
وتجدر الإشارة إلي أن الاتحاد السوفيتي قد قاطع المؤتمر وتبعته كل من سوريا والأردن ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد حرصت مصر بشدة علي تجديد الدعوة لهذه الأطراف العربية لحضور المؤتمر، فقد كانت الفرصة تاريخية بالنسبة للفلسطينيين، فجلوس الوفد الإسرائيلي مع الوفد الفلسطيني حول مائدة المفاوضات هو اعتراف إسرائيلي ضمني بالمنظمة وبوجود الشعب الفلسطيني .

وفي السادس من ديسمبر 1977 أعلن الدكتور بطرس غالي وزير الخارجية بالنيابة أن مؤتمر القاهرة التحضيري الذي يتولي الإعداد لمؤتمر جينيف سوف ينعقد في موعده يوم الرابع عشر من ديسمبر في فندق مينا هاوس علي مستوي الخبراء الذين يمثلون كل من مصر وإسرائيل والولايات المتحدة والأمم المتحدة، إلا إذا قررت الأطراف الأخرى الانضمام إلي المؤتمر التحضيري .

وأكد بطرس غالي أن اجتماعات المؤتمر تمهد لمؤتمر جنيف وتزيل أي عقبات تقف أمام انعقاده، وهي خطوة هامة علي طريق تحقيق السلام في الشرق الأوسط، وقبل ساعات من انقاد المؤتمر يوم الرابع من ديسمبر 1977 حدد المتحدث الرسمي موقف مصر مرة أخري من عناصر إقرار السلام الدائم والشامل في الشرق الأوسط معلنا أن مصر ليست بحاجة لكي تؤكد أن موقفها لا يزال علي التزامه بمقررات مؤتمر الرباط: الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وحق شعب فلسطين في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة .

كما أكد أن المؤتمر هو أول خطوة تنفيذية لعملية السلام في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فقد حرصت علي توجيه الدعوة لكل الدول العربية التي تمثل طرفا في النزاع، وأنه رغم عدم استجابة هذه الدول للدعوة فهي ما زالت قائمة لهذه الأطراف بما فيها الاتحاد السوفيتي الرئيس المناوب لمؤتمر جينيف .

وكان معني وجود الأمم المتحدة في المؤتمر هو ضمان لاستمرار الإطار الذي ارتضته الدول العربية ليتم فيه التوصل إلي الحل الشامل وإقامة السلام العادل الدائم في الشرق الأوسط، كما يؤكد وجود الولايات المتحدة احد رئيس مؤتمر جينيف البعد الدولي في جهود الحل السلمي، كما أرادت الولايات المتحدة ألا يدخل المؤتمر متاهة المناقشات الإجرائية والأمور التفصيلية .

وفي خضم هذه الأحداث عقد في الرباط – عاصمة المغرب - مؤتمرا دوريا لوزراء العدل العرب افتتحه الملك الحسن الثاني ملك المغرب بخطاب سياسي ركز فيه علي زيارة الرئيس السادات إلي القدس، وحقيقة أبعادها، وجهودها الصادقة من اجل تحقيق السلام، وتساءل الملك الحسن عن المشكلة بالنسبة للعرب في ذلك الوقت هل هي مشكلة وحدة الصف أم وحدة الهدف ، وأجاب علي التساؤل بأن وحدة الهدف وقتئذ لها الأسبقية فيما يخص مشاكل العرب مشيرا إلي انعقاد مؤتمر القاهرة للبحث عن طريق السلام، واستعرض الأسباب والتطورات التي أدت إلي انعقاد هذا المؤتمر .

وأن هذه التطورات قد دفعت العرب إلي النظر إلي مشاكلهم من زاوية مختلفة ظهرت معالمها في مؤتمر قمة الجزائر نوفمبر 1973حيث وضع مقررات وأسس للعمل السياسي العربي ثم جاء مؤتمر قمة الرباط عام 1974 ووضع مقررات محددة حول عدم عقد سلام منفرد وتحرير جميع الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس، واسترجاع حقوق الشعب الفلسطيني، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني .

وبرر سبب الزيارة المفاجئة للرئيس السادات دون أن يستشير القادة العرب بأنه لم يرد أن يحرجهم أو يحملهم التبعة والمسئولية وأنه إذا كان هناك نجاح، فهو نجاح للجميع وإن كان هناك فشل فسوف يتحمل مسئوليته الرئيس السادات وحده، وعن خطاب الرئيس السادات في الكنيست الإسرائيلي تساءل الملك الحسن الثاني: هل هناك تفريط في حق الفلسطينيين هل تنازل عن شبر من الأرض العربية المحتلة أو عن المطالبة بالقدس؟ ثم دعي ألا يبقي العرب أسري الأنانيات في هذا الوقت وفي هذا الظرف حتى تنجح كل مساعي الرئيس السادات .

وفي الواقع أن الملك الحسن أثار نقطتين علي جانب كبير من الأهمية يشكل الخلاف حولهما أسباب الخلاف بين الأمة العربية، وهما وحدة الهدف ووحدة الصف، وأكد أن التمسك بالهدف مهما تنوعت الوسيلة يؤدي في النهاية إلي تحقيق الهدف، ولكنه في الواقع لا يمثل الهدف لكل طرف عربي، والدليل علي ذلك أننا نعلن الهدف ثم نحارب من يعمل من أجله بحجة اختلاف الوسيلة، وبغض النظر عما يمكن أن تحققه هذه الوسيلة، ذلك لأننا لسنا جادين في العمل من أجل تحقيق هذا الهدف .

وبالرغم من ذلك، فقد حقق المؤتمر تقدما محسوسا في مجال المشكلات الإجرائية المتعلقة بانعقاد مؤتمر جينيف، إلا أن الخلافات بين الجانبين حول تصور كل منهما لأسس السلام استمرت في حاجة إلي جهد كبير .

وقد توقفت جلسات المؤتمر بعد أن أعلن عن عقد مؤتمر قمة مصري إسرائيلي في الإسماعيلية بناء علي اقتراح مناحم بيجن الذي اقترح ما أطلق عليه "مشروع السلام الإسرائيلي" وعرضه علي الرئيس كارتر أثناء انعقاد المؤتمر التحضيري ثم جاء به إلي الإسماعيلية ليعرضه علي الرئيس السادات في مؤتمر يعقد يوم الخامس والعشرين من ديسمبر في الإسماعيلية .

تأسيسا علي ذلك، كان من المنتظر أن يدخل المؤتمر التحضيري في مرحلة جديدة إذا ما تم إعطاء دفعة قوية لنجاح أعماله في مباحثات الإسماعيلية، كذلك كان من المنتظر إذا حقق المؤتمر هذه الدفعة الجديدة أن تتولد فرصة جديدة لإعادة توجيه الدعوة إلي كل الأطراف المعنية مرة أخري مرة أخري، وأقصد سوريا والأردن ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية والاتحاد السوفيتي، للاشتراك في المرحلة التالية من أعمال المؤتمر والتي كان من المتوقع أن يرفع فيها مستوي التمثيل ليكون مستوي وزراء الخارجية، الأمر الذي لم يتحقق نتيجة لتطورات الموقف بعد ذلك، وما ترتب عليه اجتماعات الإسماعيلية من نتائج .